ونحن في أيام إعداد الموازنة العامة للدولة، وبعد النقاش الذي شهدناه حول موازنات ربع قرن مضى، من الواجب أن نوضح أنّ الحديث لا يزال يجري عن بعض الموازنة فقط، سواء كان هذا البعض ثلاثة أرباع الموازنة أو نصفها، فهو بالتأكيد ليس كلها، لأنّ الموازنة العامة للدول يفترض أن تلبّي شرطين رئيسيين، الأول أن تتضمّن كلّ الوارد والصادر من المال، تقديرياً في الموازنة، وواقعياً في قطع الحساب المرفق عن سنة خلت، والثاني أن تشير بأرقامها إلى المنهج الاقتصادي والإنمائي الذي تتبعه الحكومة. وهذا يعني الموازنات المنفقة على غير الأبواب التقليدية، المرتبطة بالرواتب وخدمة الدين.
عندما نقول بعض الموازنة نعني أنّ الإنفاق على مشاريع العمران والإنماء المموّلة بقروض، وهي تشكل أكثر المشاريع العمرانية والإنمائية للدولة، يتمّ عبر مجلس الإنماء والأعمار، ووفقاً لمعايير وشروط يضعها هو، ولا تلحظها الموازنة، ولا يتمّ إقرارها مع الموازنة، ولا يملك مجلس النواب القدرة على التحكم بها وبخضوعها للأولويات التي يراها، ولا مناقشة شروطها. فهي تصل مشاريع منفصلة لإقرار القروض التي تموّلها ويوضع مجلس النواب بين خياري قبولها أو رفضها، بينما المفترض ورودها من ضمن خطة الحكومة وخارطة إنفاقها الإنمائي المفترض ورودها في موازنات الوزارات المختصة، ولو تمّ التنفيذ بواسطة مجلس الإنماء والإعمار، الذي يشكل هنا آلة تنفيذية لحساب الوزارة، المسؤولة عن المشاريع المنفذة ضمن نطاق اختصاصها، وعن مراعاة إجمالي المبالغ المنفقة في مجال عملها لمعايير النهوض والجدوى الاقتصاديين من جهة، والإنماء المتوازن من جهة مقابلة.
قد يكون ما يقوم به مجلس الإنماء والإعمار قمة المثالية، لكن الأكيد أنّ تقريراً دقيقاً عن مدى مواءمة مشاريعه لمعايير الجدوى الاقتصادية والإنماء المتوازن، لا يمكن لوزير أو لنائب أن يقول عنه شيئاً للبنانيين، بينما عليه أن يتحمّل المسؤولية الدستورية عن ذلك، كما لا يمكن لنائب أو وزير أن يقدّم تقريراً عن تدقيق في شروط التلزيم ومعايير التسعير، وشروط التنافسية، المعتمدة لأنّ ديوان المحاسبة لا يملك حق الرقابة المسبقة على إنفاق مجلس الإنماء والإعمار.
السياستان الاقتصادية والإنمائية للدولة، من حيث تعبير الموازنة العامة عنهما، ورقابة ومسؤولية مجلس النواب عنهما، غائبان عن موازنتنا، وهذا لا يجوز أن يستمرّ.
كما الدور الذي يقوم به مجلس الإنماء والإعمار موضع تقدير واحترام، كذلك دور مصرف لبنان موضع تقدير واحترام، ويعرف اللبنانيون أنّ هاتين الهيئتين تحملان أعباء بناء سمعة لبنانية ممتازة في الخارج، لكن الفرق كبير بين أن نحترمه ونقدّره وأن ندّعي احترام الأصول القانونية في بناء الدولة. فكما هو الحال في ما يقوم به مجلس الإنماء والإعمار، خارج نطاق مسؤولية مجلس النواب، والموازنة، يدير مصرف لبنان أموالاً ويحقق عائدات وأرباحاً، ويقيم هندسات مالية ويقرّر سياسات تتصل بالفوائد وأسعارها، ويترتب عليها رسم الجزء الأهمّ من عجز الموازنة، لكن بعلاقة ضبابية قانونياً، وخجولة محاسبياً، وأقرب للسياسة منها إلى المعايير التي تقوم عليها عملية بناء الدول.
جزء ثالث من الإنفاق يطال رواتب وتعويضات مستشارين وهيئات داعمة للحكومة والوزارات، بقروض ومساعدات، ويقيم جزراً غير خاضعة لديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية، لا يملك مجلس النواب مع الحصول على نسخة من الموازنة، أيّ قدرة على معرفته والرقابة عليه والتدخل في مساره.
المزيد من التدقيق سيوصل لكشف المزيد من الجزر القائمة خارج بناء الموازنة القانوني، وخارج هيكل الرقابة المفترض أنّ مجلس النواب يتولاها على كلّ مال الدولة، ويتحمّل في كلّ دورة نيابية المسؤولية أمام الناخبين عنها. وهذا يجب أن يلقى عناية المسؤولين، لأنّ التسيّب والفوضى وعدم اتباع الطرق القانونية في عمل المؤسسات، تعني شيئاً واحداً، أننا نريد مواجهة أزمتنا الراهنة بترقيع الثقوب في ثوبنا المالي، لا أن نستثمر الأزمة لتحقيق إصلاح شامل في أحوالنا الرثة، التي تحتاج ثوباً جديداً.